فصل: كيف يمكن التوفيق بين الحديث : (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع....) وقوله تعالى: {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً}

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين **


هل الإنسان مخير أو مسير

‏(‏195‏)‏ وسئل فضيلة الشيخ ‏:‏ هل الإنسان مخير أو مسير‏؟‏ ‏.‏

فأجاب بقوله ‏:‏ على السائل أن يسأل نفسه هل أجبره أحد على أن يسأل هذا السؤال وهل هو يختار نوع السيارة التي يقتنيها‏؟‏ إلى أمثال ذلك من الأسئلة وسيتبين له الجواب هل هو مسير أو مخير ‏.‏

ثم يسأل نفسه هل يصيبه الحادث باختياره‏؟‏

هل يصيبه المرض باختياره‏؟‏

هل يموت باختياره‏؟‏

إلى أمثال ذلك من الأسئلة وسيتبين له الجواب هل هو مسير أو مخير ‏.‏ والجواب‏:‏ أن الأمور التي يفعلها الإنسان العاقل يفعلها باختياره بلا ريب واسمع إلى قول الله تعالى-‏:‏ ‏{‏فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبًا‏}‏ وإلى قوله‏:‏ ‏{‏منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة‏}‏ وإلى قوله ‏:‏ ‏{‏ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً‏}‏ وإلى قوله ‏:‏ ‏{‏ففدية من صيام أو صدقة أو نسك‏}‏ حيث خير الفادي فيما يفدي به‏.‏

ولكن العبد إذا أراد شيئاً وفعله علمنا أن الله -تعالى -قد أراده -لقوله -تعالى-‏:‏ ‏{‏لمن شاء منكم أن يستقيم ‏.‏ وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين‏}‏ فلكمال ربوبيته لا يقع شيء في السموات والأرض إلا بمشيئته تعالى ‏.‏

وأما الأمور التي تقع على العبد أو منه بغير اختياره كالمرض والموت والحوادث فهي بمحض القدر وليس للعبد اختيار فيها ولا إرادة‏.‏ والله الموفق‏.‏

ما حكم الرضا بالقدر‏؟‏ وهل الدعاء يرد القضاء‏؟‏

‏(‏196‏)‏ وسئل فضيلته ‏:‏ عن حكم الرضا بالقدر‏؟‏ وهل الدعاء يرد القضاء‏؟‏

فأجاب قائلاً‏:‏ أما الرضا بالقدر فهو واجب لأنه من تمام الرضا بربوبية الله فيجب على كل مؤمن أن يرضى بقضاء الله ، ولكن المقضي هو الذي فيه التفصيل فالمقضي غير القضاء ، لأن القضاء فعل الله ، والمقضي مفعول الله فالقضاء الذي هو فعل الله يجب أن نرضى به ، ولا يجوز أبداً أن نسخطه بأي حال من الأحوال‏.‏

وأما المقضي فعلى أقسام ‏:‏

القسم الأول‏:‏ ما يجب الرضا به‏.‏

القسم الثاني‏:‏ ما يحرم الرضا به‏.‏

القسم الثالث‏:‏ ما يستحب الرضا به‏.‏

فمثلاً المعاصي من مقضيات الله ويحرم الرضا بالمعاصي ، وإن كانت واقعة بقضاء الله فمن نظر إلى المعاصي من حيث القضاء الذي هو فعل الله يجب أن يرضى ، وأن يقول ‏:‏ إن الله تعالى حكيم، ولولا أن حكمته اقتضت هذا ما وقع ، وأما من حيث المقضي وهو معصية الله فيجب ألا ترضى به والواجب أن تسعى لإزالة هذه المعصية منك أو من غيرك ‏.‏ وقسم من المقضي يجب الرضا به مثل الواجب شرعاً لأن الله حكم به كوناً وحكم به شرعاً فيجب الرضا به من حيث القضاء ومن حيث المقضي ‏.‏

وقسم ثالث يستحب الرضا به ويجب الصبر عليه وهو ما يقع من المصائب ، فما يقع من المصائب يستحب الرضا به عند أكثر أهل العلم ولا يجب، لكن يجب الصبر عليه ، والفرق بين الصبر والرضا أن الصبر يكون الإنسان فيه كارهاً للواقع ، لكنه لا يأتي بما يخالف الشرع وينافي الصبر، والرضا لا يكون كارهاً للواقع فيكون ما وقع وما لم يقع عنده سواء ، فهذا هو الفرق بين الرضا والصبر ولهذا قال الجمهور‏:‏ إن الصبر واجب ، والرضا مستحب‏.‏

أما قول السائل ‏:‏ هل الدعاء يرد القضاء‏؟‏

فجوابه ‏:‏ أن الدعاء من الأسباب التي يحصل بها المدعو ، وهو في الواقع يرد القضاء ولا يرد القضاء ، يعني له جهتان فمثلاً هذ1 المريض قد يدعو الله-تعالى-بالشفاء فيشفى، فهنا لولا هذا الدعاء لبقي مريضاً ، لكن بالدعاء شفي ، إلا أننا نقول ‏:‏ إن الله -سبحانه وتعالى- قد قضي بأن هذا المرض يشفى منه المريض بواسطة الدعاء فهذا هو المكتوب فصار الدعاء يرد القدر ظاهرياً ،حيث إن الإنسان يظن أنه لولا الدعاء لبقي المرض، ولكنه في الحقيقة لا يرد القضاء؛لأن الأصل أن الدعاء مكتوب وأن الشفاء سيكون بهذا الدعاء،هذا هو القدر الأصلي الذي كتب في الأزل ، وهكذا كل شيء مقرون بسبب فإن هذا السبب جعله الله - تعالى - سبباً يحصل به الشيء وقد كتب ذلك في الأزل من قبل أن يحدث‏.‏

هل للدعاء تأثير في تغيير ما كتب للإنسان قبل خلقه‏؟‏

‏(‏197‏)‏ سئل فضيلة الشيخ‏:‏ هل للدعاء تأثير في تغيير ما كتب للإنسان قبل خلقه‏؟‏

فأجاب بقوله ‏:‏ لا شك أن للدعاء تأثيراً في تغيير ما كتب ، لكن هذا التغيير قد كتب أيضاً بسبب الدعاء ، فلا تظن أنك إذا دعوت الله فإنك تدعو بشيء غير مكتوب، بل الدعاء مكتوب وما يحصل به مكتوب ، ولهذا نجد القارئ يقرأ على المريض فيشفى ، وقصة السرية التي بعثها النبي ، صلى الله عليه وسلم ، فنزلوا ضيوفاً على قوم ولكنهم لم يضيفوهم وقدر أن لدغت حية سيدهم فطلبوا من يقرأ عليه، فاشترط الصحابة أجرة على ذلك فأعطوهم قطيعاً من الغنم ، فذهب أحدهم فقرأ عليه الفاتحة ، فقام اللديغ كأنما نشط من عقال ، أي كأنه بعير فك عقاله ، فقد أثرت القراءة في شفاء المريض‏.‏

فللدعاء تأثير لكنه ليس تغييراً للقدر، بل هو مكتوب بسببه المكتوب، وكل شيء عند الله بقدر ، وكذلك جميع الأسباب لها تأثير في مسبباتها بإذن الله ، فالأسباب مكتوبة والمسببات مكتوبة‏.‏

كيف يعاقب الله على المعاصي وقد قدرها على الإنسان

‏(‏198‏)‏ وسئل فضيلة الشيخ ‏:‏ هناك مشكلة ترد على بعض الناس وهي‏:‏ كيف يعاقب الله على المعاصي وقد قدرها على الإنسان‏؟‏

فأجاب قائلاً ‏:‏ هذه في الحقيقة ليست مشكلة وهي إقدام الإنسان على العمل السيئ ثم يعاقب عليه هذه ليست مشكلة؛ لأن إقدام الإنسان على العمل السيئ ، إقدام باختياره فلم يكن أحد شهر سيفه أمام وجهه وقال ‏:‏ اعمل هذا المنكر بل هو عمله باختياره والله - تعالى - يقول‏:‏ ‏{‏إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً‏}‏ فالشاكر والكفور كلهم قد هداه الله السبيل وبينه له ووضحه له، ولكن من الناس من يختار هذا الطريق ومن الناس من لا يختاره ، وتوضيح ذلك أولاً بالإلزام ، وثانياً بالبيان‏:‏ أما الإلزام فإننا نقول للشخص ‏:‏ أعمالك الدنيوية وأعمالك الأخروية كلاهما سواء ، ويلزمك أن تجعلهما سواء ، ومن المعلوم أنه لو عرض عليك من أعمال الدنيا مشروعان أحدهما ترى لنفسك الخير فيه ، والثاني ترى لنفسك الشر فيه ، من المعلوم أنك تختار المشروع الأول الذي هو مشروع الخير ولا يمكن أبداً بأي حال من الأحوال أن تختار المشروع الثاني وهو مشروع الشر ، ثم تقول ‏:‏ إن القدر ألزمني به ، إذاً يلزمك في طريق الآخرة ما التزمته في طريق الدنيا ، ونقول ‏:‏ جعل الله أمامك من أعمال الآخرة مشروعين مشروعاً للشر وهو الأعمال المخالفة للشرع ، ومشروعاً للخير وهوالأعمال المطابقة للشرع، فإذا كنت في أعمال الدنيا تختار المشروع الخيري فلماذا لا تختار المشروع الخيري في أعمال الآخرة ، إنه يلزمك في عمل الآخرة أن تختار المشروع الخيري كما أنت التزمت في عمل الدنيا أن تسلك المشروع الخيري هذا طريق الإلزام‏.‏

أما طريق البيان فإننا نقول ‏:‏ كلنا يجهل ماذا قدر الله له قال الله -تعالى-‏:‏ ‏{‏وما تدري نفس ماذا تكسب غداً‏}‏ فالإنسان حينما يقدم على العمل يقدم عليه باختيار منه ليس عن علم بأن الله قدره عليه وأرغمه عليه ولهذا قال بعض العلماء ‏:‏ ‏"‏إن القدر سر مكتوم‏"‏ ونحن جميعاً لا نعلم أن الله قدر كذا حتى يقع ذلك العمل ، فنحن إذاً حينما نقدم على العمل لا نقدم عليه على أساس أنه كتب لنا أو علينا، وإنما نقدم عليه باختيار ، وحينما يقع نعلم أن الله قدره علينا، ولذلك لا يقع احتجاج الإنسان بالقدر إلا بعد وقوع العمل ، ولكنه لا حجة له بذلك ويذكر عن أمير المؤمنين عمر قصة - قد تصح عنه وقد لا تصح - رفع إليه سارق تمت شروط القطع في سرقته فلما أمر أمير المؤمنين بقطع يده قال‏:‏ مهلاً يا أمير المؤمنين والله ما سرقت ذلك إلا بقدر الله‏.‏ قال له ‏:‏ ونحن لا نقطع يدك إلا بقدر الله ‏.‏ فاحتج عليه أمير المؤمنين بما احتج به هو على سرقته من أموال المسلمين ، مع أن عمر يمكنه أن يحتج عليه بالقدر والشرع ، لأنه مأمور بقطع يده ، أما ذاك فلا يمكن أن يحتج إلا بالقدر إن صح أن يحتج به‏.‏

وعلى هذا فإنه لا يمكن لأي أحد أن يحتج بالقدر على معصية الله ، وإنه في الواقع لا حجة فيه يقول الله عز وجل - ‏:‏ ‏{‏رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل‏}‏ فالله يقول ‏:‏ ‏{‏لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل‏}‏ مع أن ما يعمله الناس بعد الرسل هو بقدر الله ، ولو كان القدر حجة ما زالت بإرسال الرسل أبداً ‏.‏ بهذا يتبين لنا أثراً ونظراً أنه لا حجة للعاصي بقضاء الله وقدره ، لأنه لم يجبر على ذلك ‏.‏ والله الموفق‏.‏

هل الرزق والزواج مكتوب في اللوح المحفوظ‏؟‏

‏(‏199‏)‏ وسئل فضيلته ‏:‏ هل الرزق والزواج مكتوب في اللوح المحفوظ‏؟‏

فأجاب بقوله‏:‏ كل شيء منذ خلق الله القلم إلى يوم القيامة فإنه مكتوب في اللوح المحفوظ لأن الله - سبحانه وتعالي ـ أول ما خلق القلم قال له‏:‏ ‏(‏اكتب قال ‏:‏ ربي وماذا أكتب ‏؟‏ قال‏:‏ اكتب ما هو كائن فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة‏)‏ ‏.‏ وثبت عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أن الجنين في بطن أمه إذا مضى عليه أربعة أشهر ، بعث الله إليه ملكاً ينفح فيه الروح ويكتب رزقه، وأجله ، وعمله ، وشقي أم سعيد ‏.‏

والرزق أيضاً مكتوب مقدر بأسبابه لا يزيد ولا ينقص ، فمن الأسباب أن يعمل الإنسان لطلب الرزق كما قال الله -تعالى- ‏:‏ ‏{‏هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور‏}‏ ومن الأسباب أيضاً صلة الرحم من بر الوالدين ،وصلة القرابات، فإن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، قال‏:‏ ‏(‏من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه‏)‏ ومن الأسباب تقوى الله-عز وجل - كما قال- تعالى -‏:‏ ‏{‏ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ‏.‏ ويرزقه من حيث لا يحتسب‏}‏ ‏.‏ ولا تقل ‏:‏ إن الرزق مكتوب ومحدد ولن أفعل الأسباب التي توصل إليه فإن هذا من العجز ‏:‏ والكياسة والحزم أن تسعى لرزقك ، ولما ينفعك في دينك ودنياك قال النبي ، صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني‏)‏ ‏.‏ وكما أن الرزق مكتوب مقدر بأسبابه فكذلك الزواج مكتوب مقدر ، وقد كتب لكل من الزوجين أن يكون زوج الآخر بعينه ، والله -تعالى - لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء‏.‏

هل الكفار مكتوب عملهم في الأزل‏؟‏ وإذا كان كذلك فكيف يعذبهم الله-تعالى-‏؟‏

‏(‏200‏)‏ وسئل فضيلته‏:‏ هل الكفار مكتوب عملهم في الأزل‏؟‏ وإذا كان كذلك فكيف يعذبهم الله-تعالى-‏؟‏

فأجاب فضيلته بقوله ‏:‏ نعم الكفار مكتوب عملهم في الأزل ، ويكتب عمل الإنسان أيضاً عند تكوينه في بطن أمه كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال ‏:‏ حدثنا رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وهو الصادق المصدوق‏:‏ ‏(‏إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه -أربعين يوماً ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أم سعيد‏)‏‏.‏ فأعمال الكفار مكتوبة عند الله -عز وجل-معلومة عنده والشقي شقي عند الله - عز وجل ـ في الأزل ، والسعيد سعيد عند الله في الأزل‏.‏ ولكن قد يقول قائل كما قال السائل ‏:‏ كيف يعذبون وقد كتب الله عليهم ذلك في الأزل‏؟‏

فنقول ‏:‏ إنهم يعذبون لأنهم قد قامت عليهم الحجة وبين لهم الطريق، فأرسلت إليهم الرسل ، وأنزلت الكتب ، وبين الهدى من الضلال ورُغِّبوا في سلوك طريق الهدى، وحُذِّروا من سلوك طريق الضلال ، ولهم عقول ولهم إرادات ، ولهم اختيارات ولهذا نجد هؤلاء الكفار وغيرهم أيضاً يسعون إلى مصالح الدنيا بإرادة واختيار ، ولا نجد أحداً منهم يسعى إلى شيء يضره في دنياه أو يتهاون ويتكاسل في أمر نافع له ، ثم يقول ‏:‏ إن هذا مكتوب علي‏.‏ أبداً فكل يسعى إلى ما فيه المنفعة ، فكان عليهم أن يسعوا إلى ما فيه منفعة أمور دينهم كما يسعون إلى ما فيه المنفعة في أموردنياهم ، ولا فرق بينهما بل إن بيان الخير والشر في أمور الدين في الكتب المنزلة على الرسل ، عليهم الصلاة والسلام ، أكثر وأعظم من بيان الأمور الدنيوية ، فكان عليهم أن يسلكوا الطرق التي فيها نجاتهم والتي فيها سعادتهم دون أن يسلكوا الطرق التي فيها هلاكهم وشقاؤهم ‏.‏

ثم نقول ‏:‏ هذا الكافر حين أقدم على الكفر لا يشعر أبداً أن أحد أكرهه، بل هو يشعر أنه فعل ذلك بإرادته واختياره ، فهل كان حين إقدامه على الكفر عالماً بما كتب الله له‏؟‏ والجواب‏:‏ لا ‏.‏ لأننا نحن لا نعلم أن الشيء مقدر علينا إلا بعد أن يقع ، أما قبل أن يقع فإننا لا نعلم ماذا كتب لأنه من علم الغيب‏.‏

ثم نقول له ‏:‏ الآن أنت قبل أن تقع في الكفر أمامك شيئان ‏:‏ هداية وضلال فلماذا لا تسلك طريق الهداية مقدراً أن الله كتبه لك‏؟‏ لماذا تسلك طريق الضلال ثم بعد أن تسلكه تحتج بأن الله كتبه‏؟‏‏!‏ لأننا نقول ‏:‏ لك قبل أن تدخل هذا الطريق هل عندك علم أنه مكتوب عليك ‏؟‏ فسيقول ‏:‏ لا ‏.‏ ولا يمكن أن يقول ‏:‏ نعم ‏.‏ فإذا قال ‏:‏ لا‏.‏ قلنا ‏:‏ إذاً لماذا لم تسلك طريق الهداية وتقدر أن الله تعالى -كتب لك ذلك ولهذا يقول الله -عز وجل-‏:‏ ‏{‏فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم‏}‏ ويقول ‏:‏ -عز وجل - ‏{‏فأما من أعطى ‏.‏ واتقى وصدق بالحسنى ‏.‏ فسنيسره لليسرى ‏.‏ وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسني ‏.‏ فسنيسره للعسرى‏}‏ ولما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه‏:‏ بأنه ما من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعدة من النار قالوا‏:‏ يا رسول الله ألا ندع العمل ونتكل على الكتاب‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا ، اعملوا فكل ميسر لما خلق له‏)‏ ثم قرأ قوله -تعالى -‏:‏ ‏{‏فأما من أعطى واتقى ‏.‏ وصدق بالحسنى ‏.‏ فسنيسره لليسرى ‏.‏ وأما من بخل واستغنى ‏.‏ وكذب بالحسنى ‏.‏ فسنيسره للعسرى‏}‏ ‏.‏

فهذا جوابنا على هذا السؤال الذي أورده هذا السائل وما أكثر من يحتج به من أهل الضلال ، وهو عجب منهم لأنهم لا يحتجون بمثل هذه الحجة على مسائل الدنيا أبداً ، بل تجدهم يسلكون في مسائل الدنيا ما هو أنفع لهم ، ولا يمكن لأحد أن يقال له ‏:‏ هذا الطريق الذي أمامك طريق وعر صعب، فيه لصوص ، وفيه سباع ، وهذا الطريق الثاني طريق سهل ، ميسر آمن‏.‏ لا يمكن لأحد أن يسلك الطريق الأول ويدع الطريق الثاني مع أن هذا نظير الطريقين ‏:‏ طريق النار،وطريق الجنة‏.‏ فالرسل بينت طريق الجنة وقالت ‏:‏ هو هذا ، وبينت طريق النار وقالت ‏:‏ هو هذا ، وحذرت من الثاني ورغبت في الأول ، ومع ذلك فإن هؤلاء العصاة يحتجون بقضاء الله وقدره -وهم لا يعلمونه -على معاصيهم ومعايبهم التي فعلوها باختيارهم وليس لهم في ذلك حجة عند الله-تعالى- ‏.‏

كيف يمكن التوفيق بين الحديث ‏:‏ ‏(‏إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً‏}

‏(‏201‏)‏ وسئل فضيلته ‏:‏ عن قول النبي ، صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها‏)‏ أو كما قال ، صلى الله عليه وسلم ، وهل يعارض هذا الحديث قول الله تعالى -‏:‏ ‏{‏إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً‏}‏ ‏؟‏

فأجاب حفظه الله تعالى -بقوله ‏:‏هذا الحديث حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه -يخبر فيه النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ؛ لقرب أجله وموته ثم يسبق عليه الكتاب الأول الذي كتب أنه من أهل النار ، فيعمل بعمل أهل النار - والعياذ بالله - فيدخلها ، وهذا فيما يبدو للناس ويظهر كما جاء في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار‏)‏ ‏.‏ -نسأل الله العافية - وكذلك الأمر بالنسبة للثاني يعمل الإنسان بعمل أهل النار ، فيمُنُّ الله تعالى عليه بالتوبة والرجوع إلى الله عند قرب أجله ، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها‏.‏

والآية التي ذكرها السائل لا تعارض الحديث لأن الله -تعالى - قال‏:‏ ‏{‏أجر من أحسن عملاً‏}‏ ومن أحسن العمل في قلبه وظاهره فإن الله -تعالى -لا يضيع أجره ، لكن الأول الذي عمل بعمل أهل الجنة فسبق عليه الكتاب ، كان يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس فيسبق عليه الكتاب، وعلى هذا يكون عمله ليس حسناً وحينئذ لا يعارض الآية الكريمة ‏.‏ والله الموفق‏.‏

كيف يمكن الجمع بين قول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ وبين قوله ‏:‏ ‏{‏فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر‏}

‏(‏202‏)‏ وسئل فضيلته ‏:‏ عن الجمع بين قول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء‏}‏ وقوله ‏:‏ ‏{‏فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر‏}‏ ‏.‏

فأجاب قائلاً ‏:‏ الجمع بينهما أن الله تعالى يخبر في بعض الآيات بأن الأمر بيده ويخبر في بعض الآيات أن الأمر راجع إلى المكلف ، والجمع بين هذه النصوص أن يقال‏:‏ إن للمكلف إرادة واختياراً وقدرة ، وإن خالق هذه الإرادة والاختيار والقدرة هو الله - عز وجل- فلا يكون للمخلوق إرادة إلا بمشيئة الله - عز وجل- وقد قال الله - تعالى - مبيناً الجمع بين هذه النصوص ‏:‏ ‏{‏لمن شاء منكم أن يستقيم ‏.‏ وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين‏}‏ ولكن متى يشاء الله - تعالى - ان يهدي الانسان او ان يضله‏؟‏ هذا هو ما جاء في قله تعالى‏:‏ ‏{‏فأما من أعطى واتقى ‏.‏ وصدق بالحسنى ‏.‏ فسنيسره للعسرى ‏.‏ وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى‏}‏ واقرأ قوله ‏:‏ ـ تعالى- ‏:‏ ‏{‏فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين‏}‏ تجد أن سبب ضلال العبد من نفسه فهو السبب ، والله -تعالى- يخلق عند ذلك فيه إرادة للسوء لأنه هو يريد السوء ، وأما من أراد الخير وسعى في الخير وحرص عليه فإن الله - تعالى -ييسره لليسرى ، ولما حدث النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أصحابه ‏:‏ بأنه ما من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعدة من النار قالوا يارسول الله أفلا نتكل على الكتاب وندع العمل‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا ، اعملوا فكل ميسر لما خلق له‏)‏ ثم قرأ هذه الآية ‏]‏فأما من أعطى واتقى ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏‏[‏إلخ ‏.‏

واعلم يا أخي أنه لا يمكن أن يوجد في كلام الله أو فيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تناقض أبداً ، فإذا قرأت نصين ظاهرهما التناقض فأعد النظر مرة أخرى ، فسيتبين لك الأمر ، فإن لم تعلم فالواجب عليك التوقف وأن تكل الأمر إلى عالمه والله بكل شيء عليم‏.‏

تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله خلقكم وما تعملون‏}

203- وسئل فضيلة الشيخ ‏:‏ عن قول الله - تعالى - ‏:‏ ‏{‏والله خلقكم وما تعملون‏}‏ ‏؟‏

فأجاب بقوله‏:‏هذا مما قاله إبراهيم ، عليه الصلاة والسلام ، لقومه ‏{‏قال أتعبدون ما تنحتون ‏.‏ والله خلقكم وما تعملون‏}‏ أي ما تعملون من هذه الأصنام ليقيم عليهم الحجة بأنها لا تصلح آلهة ، لأنها إذا كانت مخلوقة لله - تعالى - فمن الذي يستحق العبادة المخلوق أم الخالق‏؟‏ الجواب الخالق‏.‏ وهل يستحق المخلوق أن يكون شريكاً في هذه العبادة ‏؟‏ لا ‏.‏ فإبراهيم ، عليه الصلاة والسلام ، أراد أن يقيم الحجة على قومه بأن ما عملوه من هذه الأصنام التي نحتوها مخلوق الله -عز وجل -فكيف يليق بهم أن يشركوا مع الله -تعالى - هذا المخلوق ‏.‏ وعلى هذا فقوله ‏:‏ ‏{‏وما تعملون‏{‏ ‏"‏ما‏"‏ اسم موصول عائدة على قوله ‏{‏ما تنحون‏}‏ هذا وجه هذه الآية ‏.‏ وليس فيها أنه يبرر شركهم بالله ويقول ‏:‏ إن عملكم مخلوق لله فأنتم بريئون من اللوم عليه ، كلا لأننا لو قلنا ذلك لكان يحتج لهم ولا يحتج عليهم ، ولكن هو يحتج عليهم وليس يحتج لهم‏.‏

كيف يمكن التعامل مع شخص عاص عندما دعي للحق قال‏:‏ إن الله لم يكتب لي الهداية ‏؟‏

‏(‏204‏)‏ وسئل فضيلته عن شخص عاص عندما دعي للحق قال‏:‏ إن الله لم يكتب لي الهداية‏.‏ فكيف يتعامل معه‏؟‏

فأجاب قائلاً ‏:‏ نقول بكل بساطة ‏:‏ أطَّلعت الغيب أم اتخذت عند الله عهداً‏؟‏ إن قال ‏:‏ نعم ، كفر لأنه ادعى علم الغيب وإن قال‏:‏ لا ، خصم وغلب ، إذا كنت لم تطلع أن الله لم يكتب لك الهداية فاهتد ، فالله ما منعك الهداية بل دعاك إلى الهداية ، ورغبك فيها ، وحذرك من الضلالة ، ونهاك عنها ولم يشأ الله - عز وجل - -أن يدع عباده على ضلالة أبداً قال - تعالى- ‏:‏ ‏{‏يبين الله لكم أن تضلوا‏}‏ ‏.‏ ‏{‏يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم‏}‏‏.‏ فتب إلى الله ، والله ـ عز وجل - أشد فرحاً بتوبتك من رجل أضل راحلته وعليها طعامه وشرابه ، وأيس منها ، ونام تحت شجرة ينتظر الموت ، فاستيقظ فإذا بخطام ناقته متعلق بالشجرة فأخذ بخطام الناقة فرحاً وقال‏:‏ ‏(‏اللهم أنت عبدي وأنا ربك‏)‏ ‏.‏ أخطأ من شدة الفرح فنقول ـ تب إلى الله ، والله أمرك بالاهتداء وبين لك طريق الحق‏.‏ والله ولي التوفيق‏.‏

الحكمة من وجود المعاصي والكفر

‏(‏205‏)‏ وسئل فضيلة الشيخ ‏:‏ عن الحكمة من وجود المعاصي والكفر‏؟‏

فأجاب بقوله ‏:‏ لوقوع المعاصي والكفر حكم كثيرة منها‏:‏

1- 1- إتمام كلمة الله-تعالى- حيث وعد النار أن يملأها قال الله ـ تعالى -‏:‏ ‏{‏ولا يزالون مختلفين ‏.‏ إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين‏}‏ ‏.‏

2- 2- ومنها ظهور حكمة الله -تعالى - وقدرته حيث قسم العباد إلى قسمين‏:‏ طائع ، وعاصٍ ، فإن هذا التقسيم يتبين به حكمة الله - عز وجل -فإن الطاعة لها أهل هم أهلها ، والمعصية لها أهل هم أهلها ، قال الله تعالى -‏:‏ ‏{‏الله أعلم حيث يجعل رسالته‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم‏}‏ فهؤلاء أهل الطاعة وقال -تعالى-‏:‏ ‏{‏وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون‏}‏ ‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم‏}‏‏.‏ وهؤلاء أهل المعصية ‏.‏

ويتبين بذلك قدرته بهذا التقسيم الذي لا يقدر عليه إلا الله كما قال -تعالى -‏:‏ ‏{‏ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء‏}‏ وقال ‏:‏ ‏{‏إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين‏}‏ ‏.‏

3- 3- ومنها أن يتبين للمطيع قدر نعمة الله عليه بالطاعة إذا رأى حال أهل المعصية قال الله تعالى ‏:‏ ‏{‏لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين‏}‏ ‏.‏

4- 4- ومنها لجوء العبد إلى ربه بالدعاء أن يباعد بينه وبين المعصية والدعاء عبادة لله-تعالى-‏.‏

5- 5- ومنها أن العبد إذا وقع في المعصية ومَنَّ الله عليه بالتوبة ازداد إنابة إلى الله وانكسر قلبه، وربما يكون بعد التوبة أكمل حالاً منه قبل المعصية حيث يزول عنه الغرور والعجب ، ويعرف شدة افتقاره إلى ربه ‏.‏

6- 6- ومنها إقامة الجهاد ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، فإنه لولا المعاصي والكفر لم يكن جهاد ، ولا أمر بمعروف ، ولا نهي عن منكر ‏.‏ إلى غير ذلك من الحكم والمصالح الكثيرة ولله في خلقه شؤون‏.‏

هل في محاجة آدم وموسى إقرار للاحتجاج بالقدر ‏؟‏

‏(‏206‏)‏ سئل فضيلة الشيخ‏:‏ هل في محاجة آدم وموسى إقرار للاحتجاج بالقدر ‏؟‏ وذلك أن آدم احتج هو وموسى فقال له موسى ‏:‏ ‏(‏أنت أبونا خيبتنا أخرجتنا ونفسك من الجنة‏)‏ ‏.‏ فقال له آدم ‏:‏ ‏(‏أتلومني على شيء قد كتبه الله علي قبل أن يخلقني‏؟‏‏)‏ فقال النبي ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فحج آدم موسى ، فحج آدم موسى‏)‏ ‏.‏ أي غلبه بالحجة وآدم احتج بقضاء الله وقدره‏؟‏ ‏.‏

فأجاب بقوله ‏:‏ هذا ليس احتجاجاً بالقضاء والقدر على فعل العبد ومعصية العبد ، لكنه احتجاج بالقدر على المصيبة الناتجة من فعله ، فهو من باب الاحتجاج بالقدر على المصائب لا على المعائب ، ولهذا قال ‏:‏ ‏(‏خيبتنا وأخرجتنا ، ونفسك من الجنة‏)‏ ولم يقل ‏:‏ عصيت ربك فأخرجت من الجنة فاحتج آدم بالقدر على الخروج من الجنة الذي يعتبره مصيبة ، والاحتجاج بالقدر على المصايب لا بأس به ، أرأيت لو أنك سافرت سفراً وحصل لك حادث ، وقال لك إنسان ‏:‏ لماذا تسافر لو أنك بقيت في بيتك ما حصل لك شيء‏.‏ فستجيبه‏:‏ بأن هذا قضاء الله وقدره ، أنا ما خرجت لأجل أن أصاب بالحادث ، وإنما خرجت لمصلحة ، فأصبت بالحادث ، كذلك آدم عليه الصلاة والسلام ، هل عصى الله لأجل أن يخرجه من الجنة ‏؟‏ لا ‏.‏ فالمصيبة إذاً التي حصلت له مجرد قضاء وقدر، وحينئذ يكون احتجاجه بالقدر على المصيبة الحاصلة احتجاجاً صحيحاً ، ولهذا قال النبي ، صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏حج آدم موسى ، حج آدم موسى‏)‏ ‏.‏ وفي رواية للإمام أحمد‏:‏ ‏(‏فحجه آدم‏)‏ يعني غلبه في الحجة‏.‏

مثال آخر ‏:‏ رجل أصاب ذنباً وندم على هذا الذنب وتاب منه ، وجاء رجل من إخوانه يقول ‏:‏ له يا فلان كيف يقع منك هذا الشيء فقال‏:‏ هذا قضاء الله وقدره ‏.‏ فهل يصح احتجاجه هذا أولا‏؟‏ نعم يصح لأنه تاب ، فهو لم يحتج بالقدر ليمضي في معصيته ، لكنه نادم ومتأسف ، ونظير ذلك أن النبي ، صلى الله عليه وسلم، دخل ليلة على علي بن أبي طالب وفاطمة -رضي الله عنهما -فقال‏:‏ ‏(‏ألا تصليان‏؟‏‏)‏ فقال علي-رضي الله عنه- ‏:‏ يا رسول الله إن أنفسنا بيد الله ، فإن شاء الله أن يبعثنا بعثنا فانصرف النبي ، صلى الله عليه وسلم ، يضرب على فخزه وهو يقول‏:‏ ‏{‏وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً‏}‏ فالرسول ، صلى الله عليه وسلم ، لم يقبل حجته ، وبين أن هذا من الجدل ؛ لأن الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، يعلم أن الأنفس بيد الله ، لكن يريد أن يكون الإنسان حازماً فيحرص على أن يقوم ويصلي‏.‏ على كل حال تبين لنا أن الاحتجاج باللقدرعلى المعصية بعد التوبة منها جائز، وأما الاحتجاج بالقدر على المعصية تبريراً لموقف الإنسان واستمراراً فيها فغير جائز‏.‏

هل في قدر الله تعالى شر‏؟‏

‏(‏207‏)‏ سئل فضيلة الشيخ‏:‏ هل في قدر الله تعالى شر‏؟‏

فأجاب قائلاً ‏:‏ ليس في القدر شر، وإنما الشر في المقدور ، فمن المعروف أن الناس تصيبهم المصائب وتنالهم الخيرات ، فالخيرات خير، والمصائب شر ، لكن الشر ليس في فعل الله - تعالى -،يعني ليس فعل الله وتقديره شراً ،الشر في مفعولات الله لا في فعله ، والله - تعالى - لم يقدر هذا الشر إلا لخير كما قال-تعالى-‏:‏ ‏{‏ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس‏}‏ ‏.‏ هذا بيان سبب الفساد وأما الحكمة فقال‏:‏ ‏{‏ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون‏}‏ إذاً هذه مصائب مآلها الخير ، فصار الشر لا يضاف إلى الرب ، ولكن يضاف إلى المفعولات والمخلوقات ، مع أن هذه المفعولات والمخلوقات شر من وجه ، وخير من وجه آخر ، فتكون شراً بالنظر إلى ما يحصل منها من الأذية، ولكنها خير بما يحصل فيها من العاقبة الحميدة ‏{‏ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون‏}‏ ‏.‏

كيف يقضي الله كوناً ما لا يحب‏؟‏

‏(‏208‏)‏ سئل فضيلة الشيخ‏:‏ كيف يقضي الله كوناً ما لا يحب‏؟‏

فأجاب بقوله‏:‏ المحبوب قسمان ‏:‏

الأول‏:‏ محبوب لذاته ‏.‏

الثاني ‏:‏ محبوب لغيره ‏.‏

فالمحبوب لغيره قد يكون مكروهاً لذاته، ولكن يحب لما فيه من الحكمة والمصلحة ، فيكون حينئذ محبوباً من وجه ، مكروهاً من وجه آخر ، مثال ذلك قوله -تعالى - ‏:‏ ‏{‏وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً‏}‏ ‏.‏ فالفساد في الأرض في حد ذاته مكروه إلى الله -تعالى - ؛ لأن الله - تعالى - لا يحب الفساد ولا المفسدين، ولكن للحكم التي يتضمنها يكون محبوباً إلى الله ـ عز وجل -من وجه آخر ، وكذلك العلو في الأرض ،ومن ذلك القحط ، والجدب ، والمرض ،والفقر يقدره الله - تعالى - على عباده مع أنه ليس محبوباً إليه في حد ذاته ، لأن الله لا يحب أن يؤذي عباده بشيء من ذلك ،بل يريد بعباده اليسر ، لكن يقدره للحكم المترتبه عليه ، فيكون محبوباً إلى الله من وجه، مكروهاً من وجه آخر قال الله -تعالى -‏:‏ ‏{‏ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون‏}‏ ‏.‏

فإن قيل ‏:‏ كيف يتصور أن يكون الشيء محبوباً من وجه ومكروهاً من وجه آخر‏؟‏

أجيب ‏:‏ بأن هذا أمر واقع لا ينكره العقل ، ولا يرفضه الحس فها هو الإنسان المريض يعطى جرعة من الدواء مرة كريهة الرائحة ، واللون، فيشربها وهو يكرهها لما فيها من المرارة ، وكراهة اللون ، والرائحة، ويحبها لما يحصل فيها من الفشاء ، وكذا الطبيب يكوي المريض بالحديدة المحماة على النار ، ويتألم منها فهذا الألم مكروه له من وجه ، محبوب له من وجه آخر‏.‏

حكم من يتسخط إذا نزلت به مصيبة‏؟‏

‏(‏209‏)‏ سئل فضيلة الشيخ ‏:‏ عمن يتسخط إذا نزلت به مصيبة‏؟‏

فأجاب بقوله ‏:‏ الناس حال المصيبة على مراتب أربع‏:‏

المرتبة الأولى ‏:‏ التسخط وهو على أنواع‏:‏

النوع الأول ‏:‏ أن يكون بالقلب كأن يسخط على ربه يغتاظ مما قدره الله عليه فهذا حرام ، وقد يؤدي إلى الكفر قال - تعالى ‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة‏}‏ ‏.‏

النوع الثاني‏:‏ أن يكون باللسان كالدعاء بالويل والثبور وما أشبه ذلك ، وهذا حرام‏.‏

النوع الثالث‏:‏ أن يكون بالجوارح كلطم الخدود ، وشق الجيوب ، ونتف الشعور وما أشبه ذلك وكل هذا حرام مناف للصبر الواجب‏.‏

المرتبة الثانية‏:‏ الصبر وهو كما قال الشاعر ‏:‏

والصبر مثل اسمه مر مذاقته ** لكن عواقبه أحلى من العسل

فيرى أن هذا الشيء ثقيل عليه لكنه يتحمله وهو يكره وقوعه ولكن يحميه إيمانه من السخط ، فليس وقوعه وعدمه سواء عنده وهذا واجب لأن الله تعالي أمر بالصبر فقال‏:‏ ‏{‏واصبروا إن الله مع الصابرين‏}‏ ‏.‏

المرتبة الثالثة‏:‏ الرضا بأن يرضى الإنسان بالمصيبة بحيث يكون وجودها وعدمها سواء فلا يشق عليه وجودها ، ولا يتحمل لها حملاً ثقيلاً ، وهذه مستحبة وليست بواجبة على القول الراجح ، والفرق بينها وبين المرتبة التي قبلها ظاهر لأن المصيبة وعدمها سواء في الرضا عند هذا أما التي قبلها فالمصيبة صعبة عليه لكن صبر عليها‏.‏

المرتبة الرابعة‏:‏ الشكر وهو أعلى المراتب ، وذلك بأن يشكر الله على ما أصابه من مصيبة حيث عرف أن هذه المصيبة سبب لتكفير سيئاته وربما لزيادة حسناته قال صلى الله عليه وسلم ‏(‏ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها‏)‏ ‏.‏